Sunday, 9 July 2017

مقالة الروائي سعيد الخطيبي عن رشيد بوجدرة

(. هذه مقالة الروائي والناقد الجزائري سعيد خطيبي  وفيها تقييم يبدو في غاية الموضوعية للروائي رشيد بوجدرة.

. وسأنشر في الساعات القادمة مقالتي في موضوع "رشيد بوجدرة - الكاميرا الخفية" الذي أثار جدلا كبيرا وأسال حبرا كثيرا راجيا أن يتقبل مؤيدوه وجهة نظري كمثقف وكاتب بعيدا عن التعصب والتهديد، فحتى إن اختلفت وجات نظرنا فنحن نشترك في إيماننا بالإنسانية والمحبة وحق الزميل بوجدرة في معتقده والعالم شاهد على ذلك، واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية وكل الجداول تصب في خدمة الأدب والثقافة ورسالة التسامح☺️)

مقال الأديب سعيد خطيبي:

رشيد بوجدرة: الحلزون العنيد لم يخرج من قوقعته
سعيد خطيبي

بقلم الروائي والناقد الجزائري Saïd Khatibi

الجزائر: خمسون عاماً مرّت ورشيد بوجدرة لم يتوقّف عن الكتابة، ولا عن الخطابة وإثارة المعارك، والتحرّش بقضايا الرّاهن والالتزام بمواقف، متطرّفة أحياناً، قد نتفّق معه في بعضها، وكثيراً ما نختلف معه في أخرى.

قبل عشرين عاماً، كان رشيد بوجدرة، يعتبر ترمومتر الأدب الجزائري، ننظر للبلد من كتاباته ومن تصريحاته، كان بوصلة لفهم توجّهات تاريخ مُعاصر، لكن، في السّنوات الأخيرة، «انقلب» الرّجل على نفسه، أو هكذا بات يظهر لنا، طلّق صاحب «تطليق» جزءاً مهماً من قناعاته القديمة، نزع عن جلده عباءة اليساري الماركسي وركب سفينة النّظام، تحوّلت خطابته إلى ما يُشبه لغة مجترّة، مكرّرة، لا تحمل جديداً، تماماً مثلما فعل مثقفون وكتّاب آخرون من جيله، صار مُهادناً ومسالماً، حافظ على اسمه الأدبي كواحد من المجدّدين في الرّواية المغاربية، لكنه فقد بعضاً من بريقه ومن جمهوره، ففي آخر ندوة له، في الجزائر العاصمة، الشّهر الماضي، ورغم أنّها نُظّمت وسط المدينة، بمناسبة مرور خمسين عاماً على تجربته الأدبية، كان الحضور هزيلاً، قاعة صغيرة فشل في ملئها، شاركه فيها بعض الصّحافيين وبعض الأصدقاء القدامى، وغاب عنها القراء، ويبدو أن رشيد بوجدرة أدرك الوضع، فهم – متأخراً – ما وصل إليه اليوم، بأنه خسر مكانته كصانع للحدث الأدبي، وأن كثيرين ممن كانوا حوله تفرّقوا، شعروا بالخيبة، بأن الكاتب المثير للجدل، النّاقد لكلّ ما يدور حوله، خذلهم!

هدم التابوهات ثم هدم الذّات

منذ باكورته الرّوائية «تطليق» (1969)، التي جاءت بعد مجموعة شعرية أولى «من أجل غلق نوافذ الحلم»، كرّس رشيد بوجدرة نفسه كاسم مجدّد في الرّواية، لم يسقط في وهم الكتابات «البطولية» التي ذهب إليها بعض مجايليه، راهن على السّير عكس المُعتاد، في هدم تابوهين مهمّين: الجنس والأبّ، عرّى المجتمع الذّكوري من الدّاخل، تماهى مع أوديب.

وتوالت بعدها روايات أخرى لا تقلّ أهمية عن الأولى: «الإنكار»، «ضربة جزاء»، «ليليات امرأة آرق»، وآخر أعماله كان «ربيع» (2014)، أثبت فهماً حديثاً للتّراث العربي، وظفّه في نصوصه، وتناصّ مع أدباء غربيين ولاتينيين (حاول أن يتقاطع مع غارسيا ماركيز في رواية «ألف عام وعام من الحنين» 1979). في أكثر من خمسة وعشرين كتابا، بين رواية وشعر ومسرح ودراسة، انتقى بوجدرة لنفسه مكاناً قصياً، أوجد لذاته كتابة مُخالفة للسّائد، لغة صادمة ومستفزّة، شفافة، مُباشرة ولا تختبأ خلف الرّمزيات، كان واعياً بأن الكتابة مُخاطرة، وأن نصوصه تُحسب عليه، غامر في كسر مُسلمات، وحين اختلف مع كتّاب جزائريين، يكتبون بالعربية، أوائل الثّمانينيات، أصدر رواية له بالعربية «التّفكّك»، وأعلن حرباً – لم تنته – مع الرّوائي الطّاهر وطار، فعل ما لم يفعله أيّ واحد آخر من الكتّاب الفرنكفونيين، في الجزائر، حيث راح لسنوات، يُزاوج بين الكتابة بالعربية والفرنسية، في نوع من التّحدّي ومن المغالاة في آن، مع العلم أن كلّ رواياته ترجمت للعربية، عدا الرّوايات الثلاث الأخيرة. لكن رشيد بوجدرة لم يكتف بدور الكاتب، كما فعل محمد ديب مثلاً، الذي كان أوّل من احتفى ببوجدرة عقب صدور روايته الأولى، بل إن صاحب «الحلزون العنيد» منح لنفسه مساحة أوسع، انخرط في النّقاشات الرّاهنة التي عرفتها وتعرفها الجزائر، أراد أن يكون حضوره طاغياً، ساند وعارض، كتب مع البعض وضد بعض آخر، صاحب سياسيين وانقلب على بعض منهم، نشّط حملات انتخابية، اتّخذ، في مرّات، مواقف ثم تراجع عنها، كان يشعر بأن واجبه ككاتب يفرض عليه أن يكون متداولاً في صفحات الجرائد وفي النّدوات وفي النّقاشات، في السّياسة والثّقافة وقضايا المجتمع، واجه الإسلاميين، سنوات الموت في تسعينيات القرن الماضي، رغم أن رأسه كان مطلوباً من طرف بعض الجماعات المتطرّفة، وأوجب عليهم احترامه، لم يتخلّ عن وقوفه الصّارم مع القضية الفلسطينية، وفي رفضه لبقايا الذّهنية الكولونيالية في شمال أفريقيا، لكن في السّنوات الأخيرة، تحوّل رشيد بوجدرة إلى ما يُشبه سلك ناقل للأفكار السّياسية المهيمنة في البلد، لم يعد هو نفسه الذي كان يعرفه القارئ من سنين، صار يخجل من مُعارضة الواقع، يتحاشى مواجهة ما حصل من انتهاكات في دستور البلد، ويُساير أهواء المرحلة، كان يمكن للرّجل أن يصمت، بدل أن يتخذّ موقعاً مقرباً من السّلطة، احتراماً لتاريخه ولنصف قرن قضّاها في الكتابة والإبداع، لكنه تورّط في التّقرّب من وزراء الثّقافة، وفي التّحلّق حول طاولة السّلطة، هكذا إذن انقلب رشيد بوجدرة على نفسه، انقلب الرّجل على الكاتب، بعدما هدم تابوهات الجنس والأبوية بات يهدم تاريخه الشّخصي، بعد أن عاش متمرداً في الأدب، صار ليناً في الحياة العامّة.

خمسون عاماً بلا جائزة

يحلو لرشيد بوجدرة أن يشبّه نفسه بالكاتب الفرنسي لويس فرديناند سيلين (1894-1961) الاثنان بدآ النّشر في الدّار نفسها (دونوال)، وسيلين عانى من التّهميش في فرنسا، ليس بسبب كتاباته ولكن بسبب مواقفه السّياسية، واتّهامه بالتّعاون مع الاحتلال النّازي، سنوات الحرب العالمية الثّانية، لهذا يجد بوجدرة في حالة سيلين تعليلاً «غير منطقي» لما يعتبره تهميشاً له واستبعاداً من الجوائز الأدبية في باريس، هو يذهب نحو هذه المقارنة لإخفاء سبب آخر واضح، هو رواياته التي لم تخرج من «القوقعة» الجزائرية، ولم تصل لملامسة قارئ كوني، كما فعلت آسيا جبّار مثلاً، فنجاح بوجدرة في الجزائر، وفي كسب قراء له في المغرب وفي تونس، ليس يعني أنه بلغ كتابة أدب كوني، إنه يكتب من داخل الوعي الجزائري، من وإلى قارئ جزائري، بالدّرجة الأولى، لهذا فإن جمهور قرائه في فرنسا أو في أوربا إجمالاً هو من نخبة ومن فضوليين، مهتمّين بما يحصل خلف الحدود، وقد لاحظنا، من عقود، أن جوائز فرنسية مهمةّ، مثل غونكور، ذهبت لكتّاب لهم مواقف مناهضة لسياسة قصر الإليزيه، هذا ما يستفزّ بوجدرة، ويجعل منه – رغم نصف قرن من الإبداع – كاتباً بلا جوائز ولا تكريمات (عدا بعض الجوائز المحلية)، ما سبّب غضب الكاتب، الذي لا يتوان في التّهجّم على كلّ كاتب آخر، من بلده، يحقق خطوات خلف البحر، ويصل قوائم الجوائز الأدبية الفرنسية: سليم باشي، كمال داود وبوعلام صنصال وغيرهم. وعاد صاحب «الجنازة»، في ندوته الأخيرة، في الجزائر العاصمة، إلى معاركه القديمة، وقال: «جائزة نوبل لا تُعطى إلا للحقراء»، تصريح لا يُفهم دون إدراك حالة الإحباط التي يعيشها بوجدرة، بسبب خلو سيرته من جوائز مهمّة، وسرعان ما ردّ الكاتب عبد العزيز بوباكير على تصريحه: «أتمنّى ألا يكون صديقي رشيد، مثل الثّعلب، الذي قال عن العنب لمّا صعب عليه مناله إنه حامض.»

أكاديمية نوبل لم تعد حصناً منيعاً، كما كانت في الماضي، فقد صار متاحاً التوصّل لأرشيفها، ومعرفة ما دار في أروقتها في العقود الماضية، والتّعرّف على من رشح لها ومن لم يرشح، نعرف أن طه حسين ورد اسمه أكثر من مرّة، لكنه لم يبلغها، والتّسريبات الموثّقة أوردت اسماً واحداً من الجزائر هو آسيا جبّار (1936-2015)، والقول إن الجائزة أخطأت بوجدرة ربّما يرجع السّبب في ذلك إلى أن اتّحاد الكتّاب الجزائريين قدّم، قبل سنوات، اسم بوجدرة، كمرشح له، لكن هذا التّنظيم لم يؤخذ رأيه بعين الاعتبار، كما إن هناك نقطة أخرى مهمّة، من يرشح لنوبل للأدب لا بدّ أن يكون مترجماً للسّويدية، وهي لغة لم تصل إليها بعد روايات الكاتب. بالتّالي من المُغالطة أن يدّعي بوجدرة أنّه رُشح لنوبل، ومن المغالطة الأكبر أن ينسف قيمتها بالقول إنها لا تمنح سوى للحقراء.
الرّواية الجزائرية، المكتوبة بالفرنسية، عرفت تحوّلات سريعة، مقارنة بنظيرتها المكتوبة بالعربية. تاريخياً، أوّل رواية بالفرنسية، في الجزائر، صدرت عام 1950»نجل الفقير» لمولود فرعون، وتأخّرت الرّواية بالعربية إلى 1971.

«ريح الجنوب» لعبد الحميد بن هدوقة، ورشيد بوجدرة ينتمي للجيل الثّاني من الرّوائيين، الذي جاء بعد جيل مولود فرعون ومحمد ديب وكاتب ياسين، قطع، منذ روايته الأولى، علاقته الأدبية بسابقيه، لم يهتم بثيمات ثورة الجزائر، بشكل مباشر، بل كانت ترد في روايته، بشكل غير مباشر (عدا ربما حالة «رواية ضربة جزاء»)، هذا ما جعل من بوجدرة حالة استثنائية، في الكتابة الرّوائية، لأنه كان رافضاً السّير تحت جناح المؤسسين، لكن لاحقاً ستتغيّر الأوضاع مجدداً، فقفزات الرّواية الجزائرية، المكتوبة بالفرنسية، متصلّة بالقفزات السّياسية والاجتماعية التي عرفتها البلاد، وهو أمر لم يستطع بوجدرة مسايرته بشكل صارم في كتاباته، هكذا جاء جيل آخر عقب جيل بوجدرة، ممثلاً خصوصاً في رشيد ميموني (1945-1995)، ثم ظهرت تجارب حديثة، في السّنوات الأخيرة، مع الألفية الجديدة، مع كتّاب شباب، مثل مصطفى بن فضيل أو كمال داود، في الفترة الأخيرة، وهم كتّاب يتّجهون نحو مُساءلات إنسانية، للتّعبير عن إشكالات الرّاهن، بطرق فنية، يقتربون أكثر من قارئ مسكون بحاضره، بعدما تحرّروا من وزر التّاريخ ومن ثقله، ومكانة بوجدرة تكون – منطقياً – قد تراجعت أمام الكتّاب الجدد، لهذا فإن الاحتفال بمرور خمسين عاماً من تجربة الكاتب الأدبية، هو احتفال بماضيه وليس بما هو عليه الآن، احتفال ببوجدرة، ذلك الكاتب الذي قام بواجبه، في السّبعينيات والثّمانينيات، من القرن، قبل أن ينطفئ تدريجياً، ويصير اليوم غير قادر على تجديد نفسه، ولا على كسر القوقعة التي يعيش فيها.

المصدر (القدس العربي)

No comments:

Post a Comment