ليس مَن ينكر أنّ زعيم حزب المحافظين في المملكة المتحدة السابق ديفيد كاميرون فشل في رهانه على بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي حينما دعا إلى استفتاء 23 حزيران/يونيو 2016 لاختيار بقاء بريطانيا أو خروجها من الاتحاد الاوروبي حيث تفوّق التصويت بالخروج بنسبة 51.9 في المائة. وكان من نتائج تلك الهزيمة استقالة رئيس الوزراء. وما كان ديفيد كاميرون آنذاك مضطرا إلى الدعوة إلى مثل ذاك الاستفتاء المثير للجدل والذي حرص كلُّ مَن سبقه على تجنّبه من باب الحكمة والحيطة خشية العواقب، ومن هؤلاء رئيس الوزراء السابق توني بلير.
لكنّ شعور ديفيد كاميرون المفرط بالثقة آنذاك حثّه على المغامرة. واللعبة السياسية ليست مجرد مقامرة، ولا مفرّ فيها من الحكمة والديبلوماسية وبُعْد النظر وتأمّل كلّ النتائج المحتملة في كلِّ قرار، ما بالك إن كان القرار "كُن أو لا تكون" في المجتمع الأوربي الصديق والسوق الأوربية المشتركة ومصير علاقات المملكة المتحدة بجيرانها وشركائها ومستقبل دولة عظمى في حجم بريطانيا. والرهان يبقى مجرّد رهان، وفيه قد يكرم المرء أو يهان. وهكذا دفع الرجل ثمناً باهظا لقراره الجريء. ونتيجة ذلك الخطأ، فقدت بريطانيا عضويتها ومكانتها في الاتحاد الأوروبي وفقَدَ رئيس الوزراء البريطاني الشاب والطموح كاميرون وظيفته حيث اتخذ قراره الاستقالة من غير تردّد مباشرة بعد إعلان النتائج. فخلفته زميلته في الحزب المحافظ تريزا ماي.
ولم تكن تريزا ماي أحسن حظّاً من ديفيد كاميرون. فاختيارها لمنصب رئاسة الوزراء بدا مثيراً للجدل. فقد كان يُفترض أن يتولّى هذا المنصب أحد رواد الحملة الداعية إلى خروج بريطانيا من الاتحاد المنتصرين في الاستفتاء من أمثال بوريس جونسون ونايجل فريج. لكنّ هؤلاء اعتذروا وأفلتوا من ذلك، بلا شك لترقّبهم صعوبة مهمة التفاوض مع الشريك الأوربي وثقل مسؤولية قيادة بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي بثقة وأمان.
وإذا بتريزا ماي المنهزمة في الاستفتاء تتولّى هذه المهمة وهي مَن دافعت طويلاً عن بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي وصوتت على ذلك، وقيادة المملكة المتحدة خارج الاتحاد الأوروبي تتعارض طبعاً مع مبادئها. ومهما كان، فقد شاءت الصدف أن تتولّى هذا المنصب، وكان من الضروري مباشرة العمل والمضي إلى الأمام ومواجهة الواقع. وهذا الواقع بدا صعبا منذ البداية. فمنذ استلامها الحكم، لم تنعم بالراحة في هذا المنصب المتطلّب. ولم تسلم مواقفُها وقراراتها من المعارضة والنقد. فقررت في نهاية الأمر الدعوة إلى إجراء انتخابات برلمانية تسعى من خلالها للحصول على الغالبية المطلقة في البرلمان، وهو ما من شأنه أن يمنحها سلطة أوسع ويسمح لها بفرض قراراتها بغير مشقة، ويصدّ الأبواب في وجه معارضيها. وكأنّ التاريخ يعيد نفسه. فتريزا ماي، مثل رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون، بدت واثقة من نفسها أكثر من اللازم، فقد توقّعت فوزاً ساحقاً بهذه الانتخابات وحصد الأغلبية المطلقة ودعما لا حدود له من المجتمع البريطاني.
وتهبّ الرياح بما لا تشتهي السفن. فها هي نتائج الانتخابات البرلمانية البريطانية تخيّب أملها. فقد أجمع المتتبعون على فشلها في رهانها، حيث اكتفى حزبها بالفوز ب 318 صوت. يلي ذلك المنافس التقليدي حزب العمال الفائز بسبة 262. وهذا الفوز يعدّ خسارة وكيف لا وحزب المحافظين كان في أفضل حال في البرلمان السابق ب 330 مقعد ساعات قبل ظهور هذه النتائج؟! وها هو حزب العمال بزعامة جيريمي كوربين يحقق تقدما ساحقا لم يكن في الحسبان. فيذكي فوزه نار المنافسة بين المحافظين والعمال من جديد بعد انفراد الحزب المحافظ بالريادة من غير منازع طويلا.
ورغم هذا الأثر العظيم، ها هي عاصمة الضباب تستفيق في اليوم الموالي للاقتراع في أجواء عادية وكأنه لم يحدث شيئا. فها هم سكان المدينة يخرجون للعمل أو لقضاء حاجاتهم الأخرى في صمتهم المعتاد – وهو صمت شهدته أحياء المدينة في يوم الاقتراع وقبله - والجميع يبدو هادئا، منشغلا بشؤونه الخاصة. ولا ترى أحدا مهتماً بمطالعة الأخبار السياسية أو راغباً في معرفة تفاصيل خبر الساعة في بريطانيا، ولا ترى مواطناً يثير موضوع الاقتراع أو يخوض في نتائجه وانعكاساته رغم أهميته. ولا ترى مَن يدافع عن هذا أو ينتقد ذاك. وكأن الاقتراع وقع في بلاد أخرى غير بريطانيا ولا يهم الشأن البريطاني! هكذا هو البريطاني دائما لا يتحدث عن السياسة ولا يخوض في المواضيع المثيرة للجدل، ويحتفظ برأيه لنفسه، ويحيا في صمت ويتخذ قراراته في صمت. وفي هذا الصمت العجيب، اتخذ البريطاني قراره بإيقاف رئيسة الوزراء تريزا ماي عند حدّها وحرمانها من الفوز بالأغلبية المطلقة، وتجريدها من بعض المقاعد في البرلمان، وفرض حكومة الأقلية عليها.
ستكون لهذه الهزيمة بلا ريب انعكاسات عظيمة مستقبلا. صحيح أن حزب المحافظين لم يفقد الكثير من المقاعد في البرلمان. وصحيح أنه احتفظ بالصدارة. لكن صدى هذه الهزيمة سيتردد طويلا ة بين أسوار البرلمان وفي أرجاء المملكة المتحدة. وقد يقنِع رئيسة الوزراء المنهزمة في هذا الرهان باقتفاء خطى رئيس الوزراء السابق والانسحاب وترك المجال لشخص آخر، يحظى بأكثر مصداقية وثقة في المجتمع البريطاني، يقي المحافظين، في مثل هذه الظروف، شرّ التعثر والفشل أمام حزب العمال الصاعد والذي يبدو اليوم في أفضل حال للعودة إلى الواجهة والمواجهة واستعادة الريادة مستفيدا من فشل المحافظين المتكرر في رهاناتهم حديثاً.
وليس من شك في أنَّ رسالة المجتمع البريطاني إلى رئيسة الوزراء واضحة وشديدة اللهجة وهي أن المجتمع المدني لن يمنحها رخصة للتصرف كما تشاء، واتخاذ القرارات التي تشاء، والسير ببريطانيا في أي اتجاه تشاء، دون استشارة ممثلي المجتمع وموافقة الأغلبية، ولن يرضى بأي سلطة مطلقة في بريطانيا العظمى المعروفة منذ قديم الزمان بتقديس مبادئ الحرية والعدالة والديمقراطية.
مولود بن زادي، كاتب جزائري مقيم في بريطانيا
No comments:
Post a Comment