صحيفة الناقد العراقي العراقية:
"اللغوي مولود بن زادي يفتح النار على ميخائيل نعيمة بعد مائة عام!"
كان للرحيل عن الأوطان والبعد عن الأهل والأحباب بالغ الأثر في نفس المهاجر العربي. وانعكس ذلك في أدبه، وهو ما تجلّى في الأدب الأندلسي الذي بدا مختلفاً عن الأدب العباسي. ولعلّ أثر الهجرة كان أعمق في الأدب المهجري في القارتين الأمريكيتين أواخر القرن 19 / مطلع القرن 20. فقد بدا مختلفاً عن الأدب المحلي في المعنى والمبنى، وكان فيه دعوة إلى تخليص الأدب العربي من أغلال الماضي وقيود الأوزان والزخرفة البيانية واللّف والدوران والسمو به إلى مستوى الأدب العالمي وأعلى درجات الإنسانية. من رواد هذا الأدب ميخائيل نعيمة الذي – فضلا عن ذلك – أنفرد بالخوض في النقد واللغة. وقد تجلّى ذلك في كتابه “الغربال”. وإن تجلّت عظمته في نضجه وحكمته وسعة خاطره وإيمانه بالحرية والعدالة والإنسانية، وهو ما نلمحه في شتى مؤلفاته، فماذا عن كتابه النقدي الغربال الذي تناول فيه موضوع النقد الأدبي ومسألة اللغة؟
ما يلفتُ النظر في كتاب الغربال هو موقف ميخائيل نعيمة المتشدّد تجاه اللغويين والأدباء المحافظين المتمسكين بأصول اللغة وأحكامها وتمرّغه المتكرِّر في وحل التناقض. إنّ الصورة التي تعلق في أذهاننا ونحن نطالع مؤلفات ميخائيل نعيمة هي صورة فيلسوفٍ حكيم متسامح مؤمن بالحرية والإنسانية. فيفاجئنا في كتابه هذا بوجهٍ آخر، متهجّماً على اللغويين والأدباء المحافظين إلى حدّ تشبيههم بأحقر المخلوقات، الضفادع: “لم أجد أفضل من النقيق نعتا للضجة التي يحدثها أمثال هؤلاء الناس، لذلك شبهتُهم بالضفادع! (الصفحة 91) وهو بذلك لا يتقبّل آراءهم ولا يراعي حتى مشاعرهم. وبعد ذلك يناقض نفسه باعترافه باختلاف تصورات البشر: “إنّ الحياة يا صاحبي تعرض مشاهدها عليّ وعليك. قد ترى مشهدا لا أراه أنا وإن أكن مفتّح العينين. بل قد أنظر وإياك إلى مشهد واحد، فترى فيه أشياء لا أراها، وتسمع ما لا أسمعه. (صفحة 114)
ونراه يذود عن العامية ويرمي بسهامه العربية: “أشخاص الرواية يجب أن يخاطبونا باللغة التي تعوّدوا أن يعبّروا بها عن عواطفهم وأفكارهم… لوجب أن نكتب كلّ رواياتنا باللغة العامية، إذ ليس بيننا من يتكلّم عربية الجاهلية.” (الصفحة 34) يستوقفني خطابه أو بالأحرى موقفه المساند للعامية، فأعود بذاكرتي إلى آثاره الجليلة، فأجول بين فصولها الجميلة، فلا أرى فيها إلاّ الفصحى! وإذا به يدافع عن العامية ولا يكتب بها تماماً كما يفعل اليوم الكثير من كُتّابنا! ونراه يثير مشكل اللغة في الرواية ولا يعرف الحلّ: “عبثاً، بحثت عن حلٍّ لهذا المشكل، فهو أكبر من أن يحلّه عقلٌ واحد!… فالمسألة لا تزال بحاجة إلى اعتناء أكبر رجال اللغة وكتابها” (الصفحة 35)
وعلى ذكر مسألة اللغة، يحقّ لنا أن نتساءل إن كان ميخائيل من رجال اللغة وذوي الاختصاص، مؤهّلا للخوض في موضوع اللغة الشائك الذي راح يخوض فيه الروائي والشاعر وعالم الاجتماع ومَن درسها ومن لم يدرسها، ومن أتقن أحكامها ومن لم يتقنها، مصدرين الأحكام الجائرة في حقها، متنبئين بموتها!
ليس مَن ينكر أن ميخائيل نعيمة شاعر ومسرحيّ وكاتب مقال ومفكّر مدافع عن الإنسانية، وأنّه درس الحقوق في الجامعة الأمريكية. ولكننا ما سمعنا أنّه كان مختصّا في اللغة، وافر المعرفة فيها. وها هو يتجنّب الخوض في تعريف الكلمات: “لا تسلني أن أحدّد لك الشعر… فلا اطلاعي واسع لهذا الحد، ولا صبري طويل بهذا المقدار. فلنعدل عن تحديد الشعر وتعريفه.”
ويسيء الظن باللغة فيراها مجرّد قشور، ويسيء فهم علاقتها بالفكر: “الفكر كائن قبل اللغة، والعاطفة قبل الفكر. فهما الجوهر وهي القشور.” (الصفحة 101) واللغة في الواقع هي الأساس، فالإنسان لا يستطيع أن يعبّر عن أفكاره من غير لغة. بل لا يستطيع حتى التفكير بدون لغة. فالفكر لغة صامتة مثلما قال أفلاطون.
ويعيب على النقاد نقدهم جبران لقوله: “هل تحمّمت بعطر وتنشّفت بنور” (صفحة 97) وما أخطأ النقاد. فكلمة “تَحَمَّمَ” في غير محلّها: تَحَمَّمَ وَجْهُهُ: اِسْوَدَّ (الغني). فكلمة “تحمّم” تحمل معنى يناقض ما يقصده جبران! فهل العيب في النقاد الذين أشاروا إلى كلمة في غير محلها ولا تؤدي المعنى، أم في جبران الذي ترك كل الألفاظ التي تزخر بها لغته العربية وتؤدي المعنى ليستخدم كلمة تتعارض مع ما يعنيه؟!
ولا تخلو أعمال ميخائيل نعيمة هو أيضاً من الأخطاء اللغوية مثل: “حبّا بشكسبير” (صفحة 203)، أو “حبّا بالكلام” (صفحة 227). والصواب: “حبّاً لشكسبير”، و “حبّا للكلام” على منوال قوله تعالى: “وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ” (البقرة/165) و”مقدرته في تنسيق شعره المنثور” (صفحة 171) والصواب: مقدرته على… و”يخيل لنا أنّهم مصابون بضرب من الجنون.” (الصفحة 235) والصواب: “يخيل إلينا…” ولا يمكننا الاستهانة بمثل هذه الأخطاء التي لا نراها في اللغات الأخرى. فحرف الجرّ الذي يرافق الفعل قد يغير معناه: “رغب عن الشيء” نقيض “رغب فيه”.
ويناقض نفسه بنقده الألفاظ العربية القديمة ودعوته إلى الكتابة بلغة بسيطة تفهمها عامة الناس، ثم نراه يستخدم مفردات من المعاجم القديمة يستعصي على العامة فهمُها مثل: “وشل”: “وشل من بحر ما أعرفه أنا.” (الصفحة 203)! و”مندوحة”: “لا مندوحة لنا من الاعتراف” (الصفحة 205)!
ونراه يتذمّر من مساعي حماية مفردات اللغة: “تكاد لا تفتح جريدة من جرائد سوريا إلاَّ تجد فيها باباً للوقوقة يدعونه باب تهذيب الألفاظ” (الصفحة 96) ثمّ نراه يعظّم شأن مفردات اللغة في تناقض بيّنٍ: “إنّ لمفردات اللغة التي نصوغ منها منثوراتنا ومنظوماتنا صفات عجيبة وميزات غريبة. فلكل كلمة معنى وروح. ولكل كلمة رنة. ولكل كلمة صبغة أو لون.”! (الصفحة 71) فإن كان ميخائيل يؤمن بما للألفاظ من صفات عجيبة، فلِمَ لا يدع غيره يختار ما يروقه منها وإن كان قديماً، والحكم للقراء؟! أوليس لكلّ إنسان ذوقه! ليس المشكل في مفردات اللغة وإنما فينا لأننا لم نجتهد بقدر الكفاية لتعلم هذه الألفاظ وفضلنا كلمات غريبة عليها. ولو تعلمناها لما بدت غريبة!
ويرمي العربية المكتوبة بالعجز مقترحا إضافة اصطلاحات: “العامة تستعمل حروفا لا وجود لها بين حروف الهجاء المعروفة.. وتلفظ القاف في أكثر المحلات كالهمزة. فيجب أن نظيف إلى لغتنا بعض اصطلاحات تقوم مقام هذه الحروف.” (الصفحة 35) ألا يدري ميخائيل أنّ اللغة الإنجليزية دخلتها كلمات أجنبية مختلفة كتابةً ونطقاً ككلمة résumé و café فهل قام الإنجليزي بإضافة حروف جديدة مثل é إلى أبجديته؟! وهل غاب عنه أنّ حروف الأبجدية الإنجليزية الحالية التي كان يتحدث بها ويكتب بها وعددها 26 لم تتغيّر منذ القرون الوسطى؟! وما الذي يمنع الإنجليزي من إضافة ما شاء من الحروف لولا حرصه على حفظ الأصل واللغة! وإن اختارت قلة من العرب أن تلفظ القاف همزةً، فهل ذاك مبرر للمساس بالأبجدية ؟! ثم، ألا توجد في العامية الإنجليزية أصوات لا حروف لها؟! فهل فكّر الإنجليزي في إضافة حروف إلى أبجديته إحاطةً بالأصوات الجديدة؟!
دليل آخر على تشبّث الشعوب الغربية بأحكام لغاتهم ورفضها المساس بها: في 1989، عيَّنَ رئيس الوزراء الفرنسي (ميشيل روكارد) المجلس الأعلى للغة الفرنسية لتبسيط الإملاء. فنشر المجلس “التصحيحات الإملائية” 6 كانون الأول / ديسمبر 1990. ومع أنّ جلّ التعديلات لم يمسّ إلا بعض الرموز فوق بعض الأحرف أو الشكل، إلاّ أنّها أثارت موجة غضب هزّت فرنسا ومنعت تطبيقها مطلع 1991 كما كان مقرّراً!
ونرى ميخائيل نعيمة يسيء الظن بالزملاء ويتسرّع في إصدار الأحكام عليهم من غير حقّ. فيقول عن خليل مطران: “لماذا يضع لنا رقما بجانب (لا غرو) ويرسلنا إلى أسفل الصفحة لنرى أنها تعني (لا عجب)… فإما أنّه عربي يكتب بالعربية لأبناء العربية، ولا حاجة به إذ ذاك إلى تفسير ما يكتب. أو أنه يخاطب أبناء اللغة العربية بلغة أعجمية.” (الصفحة 203) مضيفاً: “إلا إذا كان يقصد من ورائها أن يقول لقرائه ‘إنكم والله لقوم جهّل، لا تعرفون من لغة أجدادكم وشلا من بحر ما أعرفه أنا.’ (الصفحة 203) لا شك أن مطران توخّى تفسير الكلمات من باب تسهيل الفهم وليس استخفافا بقرائه، وهو يعلم أنّ العرب لا يتقنون لغتهم. وهل نسي ميخائيل نعيمة المفردات الصعبة التي كان يضعها في كتبه والتي تحتاج هي الأخرى إلى شرح في أسفل الصفحة مثل كلمة “وشل”؟! إن كان مطران يخاطب العرب بلغة أعجمية باستخدامه ” لا غرو”، فإنّ ميخائيل نعيمة أيضا يخاطبهم بلغة أعجمية باستخدامه كلمات لا تعرفها العامة مثل “مندوحة”! والعجيب في الأمر أننا نرى ميخائيل نعيمة يستعمل تعبير “لا غرو” هو أيضا وفي كتاب الغربال نفسه: “فلا غرو إذا وجد الشاعر نفسه غريبا” (الصفحة 228)!
وينتقد المحافظين كما لو أنّهم منعوا العربية من التقدّم، ثمّ يعترف بتغيّرها وتطورها عبر التاريخ: “قطعت اللغة العربية كل هذه المراحل وتقلّبت كل هذه التقلبات وهي لا تزال لغة يتفاهم بواسطتها ملايين البشر.” (الصفحة 96) فالمحافظة على أحكام اللغة لا تعني بالضرورة منعها من التطوّر.
لقد رشق ميخائيل بسهامه الأدبَ القديم القائم على أوزان ناسيا أنّ الأمم الأخرى لا تتنكر لماضيها. وهل تنكر الإنجليز لأدب الأجداد، وأشعار شكسبير الموزونة تبقى في قمة مجدها بعد أكثر من 4 قرون؟! ومع أنّ لغة شكسبير معقدة وصعبة الفهم وتبدو مختلفة عن الإنجليزية الحديثة، هل شاهدنا في يوم ما كاتبا انجليزيا يثور على هذه اللغة وهذه الأوزان القديمة؟! وهل نسي أن الأعمال الخالدة لا تموت حتى وإن كانت قديمة وقائمة على أوزان، وهو القائل: “الأثر الخالد لا يموت، والميت لا يعيش، ولا يخلد من الآثار إلا ما كان فيه بعض من الروح الخالدة”!
وفي موضوع اللغة بدت أفكارُ ميخائيل نعيمة سطحيةً تفتقر إلى أدلة وشواهد واقتراحات مقنعة. وأكثر من ذلك، فقد ناقض نفسه بأن دعا إلى الكتابة بالعامية ولم يكتب بها. ولعلّ تعثّره في هذا الموضوع يعود إلى عدم تخصّصه في اللغة. واللغة حقلٌ ملغّم رهيب، تُقبر فيه الادعاءات والأكاذيب. وقد تنفجر القنابل المستترة في ترابه تحت أقدام المغامرين في أيّ لحظة، وحتى بعد مائة سنة.
مولود بن زادي روائي ومترجم جزائري مقيم في بريطانيا
رابط الصفحة
http://www.alnaked-aliraqi.net/article/41895.php
No comments:
Post a Comment