التأثير الأجنبي في بدايات الأدب الإنكليزي: تجربة جيفري تشوسر صاحب 'حكايات كانتربري'
بقلم الكاتب والباحث اللغوي مولود بن زادي
يعتقد الكثيرون أنّ الأدب الإنكليزي تأسس في القرون الوسطى على يدي (وليم شكسبير) 1564 ـ 1616. وفي واقع الأمر، فقد سبقه إلى ذلك بأكثر من قرن ونصف من الزمن الشاعر (جيفري تشوسر) 1340 ـ 1400 الذي كان، بفضل إسهاماته الأدبية واللغوية العظيمة، أب الأدب الإنكليزي ومؤسس لغته الإنكليزية دون منازع. وتبدو المفارقة في نقص المعلومات المتعلقة بطفولته ودراسته، مقارنة بحياته المهنية الحافلة بالمهام والأحداث، ومنها مشاركته في حملة إدوارد الثالث لغزو فرنسا، حيث أسِرَ وأطلق سراحه بفدية، والتحاقه بعد ذلك بخدمة الملك في لندن حيث سافر في مهام دبلوماسية إلى فرنسا وإيطاليا وإسبانيا في الفترة 1370 ـ 1380. وكان لهذه الأسفار، وتمكنه من لغات أخرى مثل الفرنسية واللاتينية، بالغ الأثر في فكره ونتاجه الأدبي. فقد سمح له ذلك بالاحتكاك بالشعوب والقبائل الأخرى والاطلاع على ثقافاتها وإبداعاتها. فكان أدبه مرآة تنعكس عليها أشعة فكرٍ بشري متنوع ثري تعدّى حدود الجزر البريطانية وأوروبا.
الأدب اللاتيني
فقد كان تشوسر ضليعا في اللغة اللاتينية، ملمّاً بالكلاسيكية اللاتينية والعلوم اللاهوتية، مطلعا على مؤلفات شعراء رومانيين كبار من أمثال، فرجيل وأوفيد، وأعمال فلاسفة ومفكرين من أمثال بوثيوس وماكروبيوس. وكان لذلك عميق الأثر في كتاباته. وقد ذكر تقرير جامعة غلاسكو بعنوان «عالم تشوسر» أنّه يكون قد تعلّم اللاتينية في المدرسة. ولعلّه استفاد أيضاً من المؤلفات اللاتينية المترجمة إلى اللغة الفرنسية في القرن الرابع عشر مثل كتاب أوفيد معالجا معالجة أخلاقية. ويتجلّى تأثير كتابات فرجيل وأوفيد اللاتينية في كتاب «دار الشهرة».
الأدب الإيطالي
اطلع تشوسر، من خلال أسفاره، على الأدب الإيطالي، وتأثَّرَ بكُتَّاب إيطاليين كبار من أمثال الشعراء دانتي وبترارك وبوكاشيو. فتعلَّم من هؤلاء البنية السردية في الشعر والعمق الدرامي، واكتشف جمالية القوافي وتنوع النغمات. وأخذ عنهم أيضاً صورةَ الحلم أو الرؤيا الرمزية. ويتجلَّى ذلك في كتاب «موطن الشهرة». ولعلّ أفضل نموذج للتأثير الإيطالي قصيدة «ترويلاس وكريسيدا» 1386، مقتبسة من قصة حب للكاتب الإيطالي بوكاتشيو. ويبرز تأثير الأدب الإيطالي في تشوسر أيضاً من خلال نظم القصيدة التي تقوم على البيت المؤلف من عشر تفعيلات. وبدا هذا النظام الموسيقي والشعري واضحاً في مقدمة «أسطورة النساء الصالحات»، وأيضاً من البناء الفني لقصيدته الشهيرة «حكايات كانتربري».
الأدب الفرنسي
كذلك لا يخفى أثر الأدب الفرنسي في كتابات تشوسر. وكان ذلك بلا ريب ناتجاً عن مكانة اللغة الفرنسية ونفوذها في إنكلترا في مطلع القرن الرابع عشر. يذكر يوسف عز الدين في مقالة بعنوان (أثر الأدب العربي على واضع أسس اللغة الإنكليزية) أنّ تشوسر «كان يعرف الفرنسية لأنها لغة الدولة والقوانين والبرلمان» في إنكلترا في ذلك العهد. ومعروف أنَّ تشوسر قد ترجم مؤلفات فرنسية إلى الإنكليزية مثل قصيدة «رواية الوردة». وتأثَّر بشعراء فرنسيين معروفين من أمثال ديشان وماشو. ويتجلَّى تأثّره بالأدب الفرنسي في البناء الفني للقصيدة، من خلال استعمال بيت شعري مؤلف من ثمانية مقاطع، وفي الرؤية المتخيلة الفرنسية وما يصدر عنها من بعد خيال وعمق فلسفي، وهو ما يتضح في مؤلفه «برلمان الطيور». ونلمح الأثر الفرنسي أيضا في كتاب «الدوقة» 1368، وفيه رثاء زوجة جون جوانت الأولى. وتطلعنا موسوعة المعرفة أنّه ثمة «حكايات في عمل تشوسر، منقولة حرفياً تقريباً عن حكايات فرنسية «حكاية رجل القانون» مأخوذة عن يوميات كان كتبها القانوني النورماندي نيكولا تريفيه في عام 1335، و«حكاية البورجوازية» مقتبسة من نص عنوانه «مرآة الزواج» لأوستاش ديشام، و»حكاية فرانكلين» مأخوذة عن ديكاميرون».
الليالي العربية
وكان للتراث الأدبي العربي أثر في أدب تشوسر من خلال الموشحات الأندلسية، فقد ذكر يوسف عز الدين أنّ تشوسر «قلَّدَ الموشحات الأندلسية مع تصرف». وتأثّر أيضاً بحكايات «ألف ليلة وليلة» التي ألهمت كبار أدباء العالم. ولعلّ تشوسر اطلع على هذه الحكايات من خلال اللغتين الفرنسية والإيطالية، أو ربما من خلال ما سمعه من حكايات خلال أسفاره واحتكاكه بالشعوب الأخرى. ويتجلّى أثر (الليالي العربية) في أدب تشوسر من خلال «حكايات كانتربري» الشهيرة التي شرع في كتابتها عام 1387، وظلّ يكتبها حتى آخر أيامه. وكانت فكرة الحكايات تتمثل في مسابقة تجرى بين ثلاثين حاجاً يسافرون، ذهاباً وإيابا، من لندن إلى كانتربري، ويلتقون في نزل في الطريق. فيقترح عليهم صاحبه أن يروي كل منهم حكايتين في طريق الذهاب إلى مكان الحج، وحكايتين في طريق العودة، وتكون مكافأة صاحب أفضل حكاية تناول العشاء مجاناً في النزل في أثناء طريق العودة. لكن، القدر شاء أن يرحل تشوسر قبل كتابة كل الحكايات. ويبرز التشابه بين حكايات «ألف ليلة وليلة» و»حكايات كانتربري» في المبنى والمعنى معاً من خلال قصّ حكايات تمتدّ عبر حقبة زمنية. فإن كانت شهرزاد حكايات «ألف ليلة وليلة» تقص على الملك حكايات تمتد عبر حقبة زمنية تأمل ألاّ تنتهي حتى تبقيها على قيد الحياة، فإن حجاج «حكايات كانتربري» يقصّون هم أيضاً حكاياتهم عبر فترة من الزمن في أثناء رحلتهم الطويلة إلى الحج في كانتربري، من باب المنافسة وترفيها عن الخاطر.
ليس من ينكر التأثير الأجنبي في أدب جيفري تشوسر وفي بدايات الأدب الإنكليزي، وما ذكرتُه من أمثلة شيء من هذا التأثير متنوع المصادر والنتائج. حتى تشوسر نفسه لم ينكر ذلك، إذ إنه كان يقول إنّ عمله أشبه ببانوراما لآداب عدد من الشعوب والكُتَّاب، تماماً مثلما هو بانوراما للأخلاق.
صورة المجتمع الإنكليزي
لكنّ ذلك الأدب لم يخلُ من بصمة واضع أسس اللغة الإنكليزية جيفري تشوسر الذي أضفى عليه صبغة واقعية من خلال توظيف شخصيات من شتى فئات المجتمع وطبقاته، من أزواج وربات بيوت وموظَّفين وعاطلين عن العمل وحرفيين وبورجوازيين وتجار ورهبان. وباختياره هذه الشخصيات، أحسن تصوير طبقات المجتمع الإنكليزي في ذلك العصر. وأدرج تشوسر المكان في أعماله فأحسن تصويره. وكان أدبه انعكاسا لواقع المجتمع الإنكليزي في العصور الوسطى، وهي حقبة وصفتها جامعة غلاسكو بـ»حقبة مضطربة، تسودها الحرب، والطاعون، والثورات الاجتماعية، والبدع الدينية وقتل الملوك. ومع ذلك كان هذا المجتمع ينبض بالحياة، ويفيض بالإبداع، ويشهد زيادة في انتشار القراءة والكتابة، ناهيك عن إحياء اللغة الإنكليزية كوسيلة من وسائل التعبير الأدبي». وقد غلب على أشعاره الطابع الفكاهي والبعد الإنساني. وهذه القيم الإنسانية التي فاضت بها أعماله جعلت نصوصه، كما قال الكاتب إبراهيم عريس في مقالة بعنوان (حكايات كانتربري لتشوسر صور متنوعة لمجتمع بات الإنسان محوره)، «من أهم النصوص التي تدرس أخلاق المجتمع وأصوله في زمن كان المجتمع قد بدأ يستقل بمكانته وإرادته عن وضعية كانت تجعله خاضعاً كلياً للكنيسة». هذا ما جعله يستحق لقب أب الأدب الإنكليزي ومؤسس اللغة الإنكليزية.
كاتب جزائري مقيم في بريطانيا
No comments:
Post a Comment