بقلم
المترجم والكاتب الجزائري المهجري مولود بن زادي
النَّقْدُ،
بتعريفه اللّغويّ، مشتقّ من كلمة (نَقَدَ) التي تعني أساسا مَيَّزَ. فكما جاء في
المُنْجِد في اللُّغَة والأعْلام، نَقَدَ الدَّراهم وغيرها: ميَّزها ونظرها ليعرف
جيِّدها من رديئها. وهذا، بلا ريب، المعنى الأول الذي حملته هذه اللَّفظة قبل
تطوّرها واتساع مفهومها. فقيل: (نَقَدَ الكَلامَ) ومعناه أظهر ما به من العيوب
والمحاسن. ومنه نشأ مفهوم النقد الأدبي بمعناه المعروف حاليا. فالنقد، بتعريفه
الأدبي، هو فن تفسير الأعمال الأدبية ومحاولة التَّمييز بين أساليبها وكشف محاسنها
ومساوئها.
العملية
النقدية تمرّ عادة بثلاث مراحل:
المرحلة
الأولى: وتدعى "مرحلة التفسير" وتتمثل في كشف المعنى العام الذي أراد
الأديب أن يعبر عنه.
المرحلة
الثانية: وتدعى "مرحلة التَّحليل" وتشمل شرح الأسلوب الذي سلكه الأديب
للتعبير عن أفكاره وعواطفه ورؤاه.
المرحلة
الثالثة: وتدعى "مرحلة التقويم" وتتمثَّل في الحكم على العمل الأدبي
وإبراز مدى تفوّق الأديب أو فشله في التعبير عن المضمون بالشكل المناسب.
وإن أجمع
النقاد على ضرورة مرور العملية النقدية بالمرحلتين الأولى والثانية فإن فئة منهم
اختلفت معهم في الرأي بشأن المرحلة الثالثة فأكدت أن مهمة النقد ينبغي أن تقتصر
على الكشف عن مضمون النص الأدبي وشكله دون الحكم عليه وترك ذلك الحكم، في آخر
المطاف، للقارئ. وأنا أمِيل إلى هذا الرأي، فالقارئ، في نظري، أحقّ بالحُكم على ما
يقدِّمه الكاتب من أعمال أدبية، فالمُؤلَّفات موجّهة، في الأخير، إلى القارئ يستمد
منها متعة ومنفعة وعبرة، رغم خضوعها الحتمي، في وقت من الأوقات، لعمليات النقد.
والنقد،
بلا ريب، لازَمَ الأدب منذ نشأته. ولا جرم الناقد
الأول للعمل الأدبي هو الأديب عينه. فالمؤلّف بطبيعته ناقد لنفسه مقوّم لعمله قبل صدوره والتفات
الناس إليه. فقد ينفق الأديب زمنا معتبرا في تنقيح العمل قبل نشره ووضعه بين يدي
القارئ وإلقائه بين أمواج النقد الخارجي المتلاطمة التي تسوقه بعد ذلك في أي اتجاه
شاءت.. فقد ترى فيه عَيْنُ الناقد حُسْناً فتُغْرقه مَدحا أو ترى فيه قبحاً فتُغرقه
قَدحا. يواظب الأديب على قراءة عمله قبل نشره مفتشا عمّا لزقت به من شوائب أو
مثالب أو نقائص أو مَعَايب، فيصحِّح ما يستطيع تصحيحه ويصلح ما يمكنه إصلاحه. وقد
لا يفلح في ذلك كلية حتى وإن أنفق في ذلك وقتا مديداً وبذل فيه جهداً جهيداً. فما
الكمال، في نهاية الأمر، إلا لله عزَّ وجلَّ. فقد صَدقَ العماد الأصفهاني عندما
قال: “إنِّي رأيتُ أنّهُ لا يَكْتُبُ أحَدٌ كتابا في يومِه إلاّ قال في غَده: لو
غــُيِّرَ هذا لكانَ أحسن، ولو زيدَ هذا لكان يُسْتَحْسَن، ولو قُدِّمَ هذا لكان
أفضَل، ولو تُرِكَ هذا لكان أجمل. وهذا من أعْظَم العِبَر، وهو دَليل على اسْتيلاء
النَّقْص على جملة البَشر.”
لقد
تطوّر النقد على مدى العصور وتعدّدت مناهجه، غير أن غايته بقيت، بشكل عام، واحدة
مشتركة منذ أيام الفيلسوف الشهير أرسطو وإلى عصرنا هذا وتتمثل في اهتمام الناقد بطرح
جملة من الأسئلة عن مضمون النصّ والشكل الذي سلكه الأديب للتعبير عن أفكاره.
لكن، لا
يمكن، بأي حال من الأحوال، إجراء نقد صحيح ومنصف لعمل من الأعمال بمجرد النظر إلى
مضمون النصّ وشكله من غير النظر في السيرة الذاتية للمؤلف والعوامل النفسية والعاطفية
وتأثيرات التيارات الفكرية والأدبية والبيئة الاجتماعية والظروف السياسية
والاقتصادية والثقافية المختلفة المحيطة بالأديب. فهي كلُّها تساهم بشكل أو بآخر
وبنسب متفاوتة في تحديد مضامين الأعمال الأدبية ورسم مناهجها واتجاهاتها. فلا شك
أنّ جهود الناقد ستؤول إلى الفشل إن سارع إلى إعداد قراءة نقدية لعمل من الأعمال
الأدبية بشكل آلي بلا رويّة دون تأمل كل العوامل والخلفيات المؤثرة. ولتأكيد مدى
تأثير هذه الظروف على الأديب وإسهاماته الأدبية، نأخذ ربما بعض الأمثلة من واقع
الرواية الجزائرية. فمن يتأمل مراحل تطوّر الأدب الجزائري، يلاحظ، بلا ريب، نزعة الروائي
الواقعي منذ القديم إلى وصف الجانب الاجتماعي لعصره وتصوير كل ما يميّز الواقع
المعاش من قضايا وتناقضات وصراعات وغيرها. فهو ثمة شاهد عليها يصوّر مشاهدها ويعلل
أسبابها ويعدّد آثارها. فهذا الأديب رضا حوحو، رائد الرواية الواقعية الجزائرية في
القرن الماضي، يعالج مسألة الحجاب الشّائكة لأول مرّة في المجتمع في رواية 'غادة
أم القرى' الشهيرة سنة 1947. وفي وقت لاحق وبالتحديد مع بداية السبعينات، نشهد نزعة
الكثير من الروائيين إلى الاتجاه الإيديولوجي الاشتراكي انعكاسا للواقع المعاش في
تلك الحقبة. فهذا، على سبيل المثال، الأديب عبد الحميد
بن هدوقة قد نشأ في الأوساط الريفية وهو ما أكسبه معرفة واسعة عن نفسية الفلاح
وحياته، وهذا ما انعكس تماما على مؤلفاته ونرى ذلك جلياً في روايته الشهيرة 'ريح
الجنوب' سنة 1970 التي حوّلت فيما بعد إلى إنتاج تلفزيوني. وأيضاً الأديب حسان
جيلاني يبدو متعصبا للثورة الزراعية في روايته 'لقاء في الريف' 1980.
ولقد عرفت الجزائر، منذ نشأة الرواية فيها مع صدور أول نصّ
روائي "حكاية العشاق في الحبّ والاشتياق" للمؤلف محمد بن إبراهيم سنة
1847، ثمّ رواية 'غادة أم القرى' للأديب رضا حوحو بعد قرن من ذلك
سنة 1947، عدَّةَ تيارات أدبية أبرزها التيار الكلاسيكي الواقعي الذي توخَّى
أسلوبا تقليديا سهلا معتمدا على السرد المنظم في وصف الأحداث مراعيا التسلسل
الزمني والحبكة مهتما كثيرا بالمضمون. وقد تزعَّم هذا التيارَ روادُ الرواية
الجزائرية المكتوبة باللُّغَة الفرنسية. فهذا الأديب مولود فرعود يصدر رواية "ابن
الفقير" سنة 1950، ومولود معمري ينشر رواية "الربوة المنسية" سنة
1952، ويطلق محمد ديب ثلاثيته الشهيرة المتمثلة في رواية "البيت الكبير"
سنة 1952 والتي نشرتها "لوسوي" الفرنسية،
ونفدت طبعتها الأولى بعد شهر واحد فقط وهذا دليل على مدى نجاح هذه الرواية وهذا
الصنف الروائي، ورواية
"الحريق" سنة 1954 التي تنبأ فيها بالثورة الجزائرية فاندلع بركانها بعد
صدورها بثلاثة أشهر فقط، ورواية "حرفة الخياط" سنة 1957.
بعدها نشأ تيار آخر خرج بالرواية من إطارها
الكلاسيكي مبدعا فأضفى عليها طابعا شعريا مركزا على الشكل أكثر من المضمون متحرّراً من طريقة السرد التقليدية والقيود اللُّغَوية. كان رائده كاتب ياسين
الذي أبدع كثيراً في روايته الشهيرة "نجمة" سنة 1956
واتسعت آثاره وما زالت إلى حد الساعة.
فحتى يتسنَّى للناقد التوفيق في قراءة
الرواية الجزائرية قراءة موضوعية عادلة، فإنّه يحتاج حتما
إلى الإلمام بالعوامل النفسية والعاطفية والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية
التي تؤثِّر حتما على الكاتب وعلى توجهاته الفكرية والأدبية مثلما ذكرنا آنفا.
لا بدّ له أيضا أن يتعرّف على مراحل تطوّر الرّواية
الجزائرية عبر التاريخ ويطّلع، في سياق ذلك، على ما أنتج من الأعمال الأدبية
الجزائرية باللُّغَتين العربية والفرنسية معا دون فصلها عن بعضها والتفريق بينها بذريعة
اللُّغَة كما يفعل البعض. فهي، رغم فارق اللُّغَة، أعمال مشتركة متماسكة كالجسد
الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. فهي أعمال
تشترك في كونها من تأليف أقلام جزائرية لا أجنبية وتنتمي إلى بيئة واحدة وتشترك في
الثقافة وتثير قضايا مشتركة شهدها الأدباء وعاشوا تجاربها فهبوا يصفونها بأقلامهم وإن اختلفت لغاتهم ومناهجهم. فهي
بذلك كلها أعمال جزائرية وجزء لا يتجزّأ من الثقافة والتراث والهوية.
ورغم أن الكثير من الأعمال الأدبية الجزائرية
باللُّغَة الفرنسية تُرْجِمَ إلى اللُّغَة العربية إلاّ أن خير سبيل لفهمها وتقدير قيمتها هو قطعاً الإطلاع عليها باللُّغَة التي كُتِبَتْ بها
وليس من خلال النسخ المترجمة التي لا تعكس بأي حال من الأحوال الكتب الأصلية وإن كانت توصل إلى حد ما معناها. فرغم ما يبذله المترجم من جهد في نقلها إلى اللُّغَات الأخرى إلا أن النصوص الأدبية
غالبا ما تفقد قيمها الجمالية والتعبيرية عند ترجمتها. فنحن في
حقل الترجمة نجد عادة ترجمة الأعمال الأدبية أصعب من ترجمة أصناف
النصوص الأخرى بحكم أن المصنفات الأدبية تحمل قيما معينة تعرف باسم القيم الجمالية
والتعبيرية والتي عادة ما
تضيع عند تحويل النصّ إلى لغة أخرى. فإن اطّلع عليها الناقد بلغة غير اللُّغَة
التي صُنِّفَت بها، ربما لعدم معرفتها أو
إتقانها، فإنّه قد يسيء فهمها وقد يخطئ في تقدير قيمتها وبذلك قد يجور في الحكم عليها وعلى أصحابها.
ومن الشروط الأخرى التي يجب على الناقد أن يراعيها عند القراءة
النقدية، التزام مبدأ الحياد وعدم الانحياز لأي تيار أدبي أو كِتَابٍ أو كَاتِبٍ مِن
الكُتَّابِ. فنظرة الناقد لن تكون بأي حال من الأحوال صادقة صائبة إن تناول عملا
من الأعمال وهو متعصب لشخصية من الشخصيات الأدبية أو لشكل من الأشكال الفنية
مقيداً تفكيره بمثل هذه القيود، فلا يرى غيرها في الوجود.
لكن، السؤال الذي يحسن بنا طرحه حينئذ هو: يا ترى، أيعقل أن يتجرّد الناقد
من ميوله وعواطفه أثناء القراءة النقدية؟ فالنزعة العاطفية منصهرة في ذاته وجزء من
حياته. وهنا يحسن بي ربما الإشارة إلى تجربة شخصية حديثة للدلالة على ذلك: فقد عرَضْتُ
روايةً اجتماعية درامية مقتبسة من قصة واقعية على أستاذة أدب عربي في إحدى
الجامعات الجزائرية لنقدها، فاستحسنت شكلها الذي ابتغيته أن يكون كلاسيكيا بسيطاً
يفهمه الكل تأثراً مني بالمدرسة الكلاسيكية الواقعية لا سيما تلك التي شهدها الأدب
الجزائري مع مطلع الخمسينات والتي أشرت إليها أعلاه. والتيار الكلاسيكي الواقعي لا
يقتصر أبداً على الأدب الجزائري فهو نمط متداول في كل اللُّغات الحيّة لا يحده مكان
أو زمان. استحسنت أستاذة الأدب العربي الأسلوب حتى أنها شبهته بأسلوب الأديب
الرائد محمد ديب، الذي ذكرناه آنفاً، وأكَّدَتْ أنها تشعر وهي تنتقل بين صفحات
الرواية وكأنها تقرأ إحدى روايات الفقيد وهذا فخر لي وشرف عظيم. بعدها، سلَّمتُ
الرواية عَينها إلى أستاذة بجامعة ليدز هنا في بريطانيا وهي أستاذة اهتمت بدراسة
الرواية الجزائرية ونقدها، لكنها اعترفت بفشلها في الاطلاع على الرواية الجزائرية
المكتوبة باللُّغَة الفرنسية بسبب حاجز اللُّغَة. فقد ضاعت منها بذلك فرصة معرفة جزء
هام من الأدب الجزائري لا يستهان به، ومن سمات هذا الأدب الأسلوب الكلاسيكي الذي عرف
ازدهارا كبيراً إنطلاقاً من مطلع الخمسينيات والذي
أحاول الكتابة به. اِستقبحت هذه الأستاذة الشكل وعدّته أسلوبا تقليديا بسيطا لا يصلح
في هذا العصر وأعلنت فجأة ولاءها للكاتبة أحلام مستغانمي واستظرفتْ أسلوبها الشعري
وأمرتني بالكف عن إزعاج كاتبتها المفضلة وراحت توبّخني لإقدامي على كتابة مقالة
نقدية بعنوان 'الأخْطَاءُ اللُّغَوِيَّةُ والألفَاظُ العَاميَّةُ لا تَليقُ بِكِ
في رِوَايَةِ الأسْوَد يَليق بِكِ' وهي التي أعانتني من قبل في خفاء على نشر
المقالة النقدية في الصحف الخليجية وهي تدرك مضمونها، فأحدثت المقالة ضجة في
البلاد العربية. كشَفْتُ في تلك المقالة عن بعض الأخطاء اللُّغَوية التي وقعت فيها
رواية أحلام مستغانمي الأخيرة بحكم أنِّي مترجم ولغويّ دون التعرّض، بأي حال من
الأحوال، لشخصها وقدمت فيها أدلة وشواهد من المعاجم العربية والقرآن الكريم ودعوت معارضي
المقالة للردّ عليها بموضوعية فقد كنت واثقا تماما مما كتبته وعللته بالأدلة
والشواهد. لكن، مثلما توقعت تماماً، لم ألق ردا يفنِّد ما ذكرته عن تلك الأخطاء.
لم يصلني من هؤلاء، الذين امتهنوا المحاماة دون مؤهلات أو رخصة أو إذن من الكاتبة
أحلام مستغانمي، إلا الشَّتم والتوبيخ والإهانة والتهم الباطلة! كل ذلك مسجل على
صفحتي بالفايسبوك.
فالناقدة هنا خرجت عن إطار النقد المألوف
فمنحت نفسها صلاحيات المصلح والمرشد والمحامي... وتجاهلت حرية الرأي والتعبير بل وحق
الكاتب في اختيار الشّكل الذي يراه مناسبا له ولكِتابه فخوّلت نفسها حق التّدخل في
شؤونه والضغط عليه، إضافة إلى استخفافها بالأسلوب الكلاسيكي الواقعي الذي سار على
دربه الكثير من الأدباء في الجزائر وفي البلاد العربية وخلّفوا لنا منه مؤلفات عظيمة
اجتازت امتحان الزمن وهي اليوم من أمهات الكتب في الوطن العربي ولا جدال في ذلك. وحتى
كتاب آخرين من أمثال عميد الأدب العربي طه حسين والروائي الواقعي نجيب محفوظ
الحائز على جائزة نوبل استعملا كلاهما أسلوبا سهلا مماثلا.. ومنذ متى كان من حق
الناقد أن يفرض الأسلوب الذي يشتهيه على الكاتب؟! ولِمَ تلومني الأستاذة على مقالتي
النقدية وتنهاني عن النقد وهي ناقدة لا ترى مُؤلَّفاً إلا وانتقدته! أراها تنهى عن
خلق وتأتي مثله!
فالمثال المتقدم الذكر يشهد على استحواذ الميول والعواطف وحتى المصالح
الشخصية والاحتيال على بعض نقادنا ويشير إلى إمكانية تخطِّي بعض النقاد الحدود في
غياب الرقابة وإلى إمكانية وقوع القراءات النقدية في فخ الخطأ والإجحاف والجور.
فقد ينفق الأديب سنوات طويلة من عمره في إعداد عمل ذي تصوير حيّ لوقائع وتفاصيل
يومية واقعية وفق شكل مناسب ارتضاه للتعبير عن أفكاره. ثمّ يأتي بعد ذلك ناقد يهدُّه
بأحكامه القائمة على سوابق ظنٍّ وميول شخصيَّة وغير ذلك.. وقد يصدر أحكامه بناء
على قراءة بعض الصفحات فقط وليس الكتاب كلّه مثلما كانت ستفعل الأستاذة الناقدة من
الجامعة البريطانية ورسائلها دليل على ذلك.
وربما ما يمكنني أن أضيفه في الختام هو ضرورة إجراء القراءات النقدية
وفقا لصنف الرواية والتيار الأدبي الذي تندرج فيه وليس مطلقا بمقارنتها مع الأعمال
الإبداعية الحديثة التي قد يستفيد بعضها من شهرة الكاتب والضجة الإعلامية وغير ذلك
فيشغل بذلك مرتبة أعلى بين المؤلفات، والزمان بلا ريب خير حاكم على أعمالنا.
لا مجال، على سبيل المثال، لمقارنة رواية
واقعية كلاسيكية تركِّزُ على المضمون برواية معاصرة شعرية الأسلوب تقوم على الشكل.
ولا مجال لمقارنة هذين الصنفين برواية بوليسية على طريقة روايات أغاتا كريستي. فإن
أرادنا الإنصاف، نقيّم الرواية الواقعية الكلاسيكية في إطار ما صدر من روايات
واقعية كلاسيكية لا ضمن غيرها من الأصناف. لكل رواية بنيتها وأسلوبها ولكل أديب
الحق في اختيار ما يراه مناسبا له ولروايته تماما مثلما أكد فريق من النقاد، من
قبل، من أمثال الناقد البريطاني بيرسي لوبوك (1879-1965) الذي قال في كتاب "صنعة الرواية" وهو
يعدّ من أهم الدراسات النقدية التي تعالج الفن الروائي: "الكاتب الروائي
يمتلك كامل الحرية في اختيار الأسلوب الملائم لكل مقطع حكائي " فقد يستعمل
المسرحية حينما توفر له هذه المسرحية كل احتياجاته، أو يستخدم الوصف التصويري
حينما يتطلب شكل القصة ذلك"...
وفي الختام، أقول إن النقد لن يكون منصفا إلا إذا خضع لجملة من الشروط.
فلا بدّ أن يكون النقد عن علم ومعرفة وفي إطار موضوعي وبتقديم أدلة وشواهد لا عن
جهل وباطل وعن إدعاءات وتُهَم زائفة. ولا يمكن أن
ينظر النقد إلى مضمون النصّ وشكله من غير تأمل السيرة
الذاتية للأديب والعوامل النفسية والعاطفية والظروف الاجتماعية والسياسية
والاقتصادية والثقافية المختلفة المحيطة به والتيارات الفكرية والأدبية التي قد
يتأثر بها الكاتب فتنعكس على ما يؤلفه. ولا بدّ أن يلتزم الناقد مبدأ
الحياد وعدم الانحياز لأي تيار أدبي أو كَاتِبٍ مِن الكُتَّابِ، ولا بدّ أن يحترم
كل الأصناف الروائية حديثة كانت أو قديمة فلا يستهين بأي منها ولا يستخفّ بمن
يتبعها. فكم من موضة ظن المرء أنها ولَّتْ ولن تعود وإذ بها ترجع وتسود. فإن كان الناقد
شغوفا بالأعمال الإبداعية المعاصرة، فلا بدّ عليه أن يعلم أن هناك قراء يفضلون أعمالا
أخرى ومنها المؤلفات الكلاسيكية، فعلى الناقد احترام أذواقهم واختياراتهم
فالمؤلفات موجهة إليهم في آخر الأمر. وخير الأعمال الأدبية هي تلك التي تجتاز
إمتحان الزمن وتستحسنها الأجيال المقبلة وتبقى صالحة بعيدا عن أيّة ضجة إعلامية،
وهذا ما ينطبق على مؤلفات التيار الواقعي الكلاسيكي الجزائري الذي ذكرناه آنفا.
فلا أحد من النقاد ينكر أن الإقبال على مؤلفات مولود فرعون ومولود معمري ومحمد ديب
وآخرين مستمر بعد مرور أكثر من نصف قرن على ظهورها بعيدا عن أيّة ضجة إعلامية. أجل،
هذا الأدب حيّ قائم وإليه ننتسب، فإن قال قائل إنّ أسلوبهم مات فقد كذب.
مولود بن زادي – المملكة المتحدة
http://www.facebook.com/MouloudBenzadi?ref=ts