Thursday 16 March 2017

بعث اللغات بعد انقراضها بقلم الروائي واللغوي مولود بن زادي

مقالتي في صحيفة "رأي اليوم" اللندنية بعنوان:

"بعث اللغات بعد انقراضها.. التجربة المانكسية.."

http://raialyoum.com/?p=637527



المقالة كاملة:


بعثُ اللغاتِ بعد انقراضها.. التّجربة المانكسية

تطالعنا وسائل الإعلام الغربية منذ سنوات بجهود العلماء الغرب المكثّفة في سبيل بعث حيوانات ضخمة منقرضة مثل الديناصورات التي رحلت عن الوجود قبل 65.5 مليون سنة. وهذا ما تؤكده تقارير إعلامية مثل منشور مؤسسة (سكاي نيوز) الإخبارية البريطانية بعنوان "الماموث البري قد يُبعث من جديد" (3 تموز /يوليو 2015)، ومقال صحيفة (مترو) اللندنية بعنوان "سنتان تفصلان العلماء عن خلق جنين الماموث الوبري وهجين فيل" (18 شباط /فبراير 2017).
إنّ الأموال الضخمة التي تستثمرها الأمم الغربية في مثل هذه التجارب العلمية الرائدة وما يبذله علماؤها من جهود في المخابر وما يحقّقونه من تقدم في أبحاثهم وما يلوح في الأفق أمامهم من بريق الأمل والتفاؤل بقرب موعد خلق هذه الأجنة، لدليل على أنّ ما كان قبل سنوات يبدو ضربا من الخيال تعكسه لنا سينما الخيال العلمي الأمريكية من خلال أعمال مثيرة مثل فيلم "حديقة الديناصورات" (1993)، قد يتحوّل قريبا إلى حقيقة في عالم متطوّر سريع لا شيء فيه مستحيل.
وإن كانت الحيوانات المنقرضة قابلة لأن تُبعث، فماذا يا ترى عن اللغات المنقرضة؟ هل يمكن للغاتٍ ميتة مثل اللغة الفينيقية واللغة العمونية واللغة المؤابية أو ربما لغة في حجم اللاتينية، لغة الإمبراطورية الرومانية سابقاً، أن تعود إلى الحياة بعد موتها؟

الجواب على هذا السؤال يكون حتماً بالإيجاب. فإن كان الحيوان بروحه وجسده قابل للعودة إلى الحياة اعتمادا على بقايا هزيلة أكل عليها الدهر وشرب، فما بالك باللغة وهي في واقع الأمر نسق من الإشارات والرموز تحكمها قواعد، يستخدمها الإنسان وسيلة للتواصل والتعبير عن أفكاره ومشاعره؟! وبينما فقد الحيوان المنقرض لحمه وشحمه ودمه وخرجت منه روحه، فإنّ اللغة المنقرضة تركت من بعدها حروفَها وكلماتها وتعابيرها وأصواتها وقواعدها. فرموز اللغات الغابرة محفوظة من خلال نقوش ونصوص قديمة تناقلتها الأجيال، أما اللغات المنقرضة حديثاً، فهي بلا شكّ في أفضل حال للعودة إلى الحياة، فهي موثّقة ومحفوظة صورة وصوتا وبجودة عالية في زمننا هذا، زمن التكنولوجيا المتطورة! وإن كان الإنسان قادراً بفطرته وذكائه على تعلم عدة لغات في آنٍ واحد وفي أوقات وجيزة بما في ذلك اللغات المعقدة في العالم، فما الذي يمنعه من إتقان لغات كانت في يوم ما حية وكان لبعضها أثر بالغ في تشييد صرح الحضارات وشأن عظيم في مسار حياة البشر، إن توفّرت طبعاً النية الحسنة والإرادة القوية والرغبة في بعث لغة الأجداد وترقيتها وحفظها؟!
ولعلّ خير نموذج لمثل هذه الإرادة التّجربة المانكسية التي تطلّ علينا من الجزر البريطانية. إنها جزيرة صغيرة لا تتعدّى مساحتها 572 كم2، ولا يتعدّى طولها 48 كم وعرضها 13 إلى 24 كم، تقع في عرض البحر الإيرلندي بين بريطانيا وإسكتلندا وإيرلندا، تدعى جزيرة (مان). الجزيرة تابعة للتاج الملكي البريطاني واللغة الرسمية المعتمدة فيها والتي يستخدمها السكان في حياتهم اليومية هي لغة الوطن الأم، الإنجليزية. لكنّ اللغة الأصلية لسكان الجزيرة هي اللغة المانكسية التي ظلّت عبر التاريخ لغةً سيدةً في هذه الجزيرة إلى غاية القرن العشرين حيث حلّت محلها اللغة الإنجليزية، لغة العلوم والتكنولوجيا وأكبر لغة في العالم. وفي سنة 1974، توفي آخر شخص يتكلم اللغة المانكسية واسمه (ند مادرل) وهو ما كان يعني موت هذه اللغة. وفي وقت لاحق أكدت وسائل الإعلام نبأ انقراض هذه اللغة. ففي يوم 20 شباط / فبراير 2009 نشر موقع قناة (البي بي سي) البريطانية خبرا بعنوان "اليونيسكو تعلن لغة مانكس الغيلية لغة منقرضة".
لكن المواطن المانكسي الغيور على ثقافة أجداده رفض الاستسلام إلى الواقع الجديد الذي رسمته له الثقافة الإنجليزية بألوانها الزاهية. فسعى كل مسعى لإحياء هذه اللغة الميتة. وها هو تقرير ال "بي بي سي" بتاريخ 31 كانون الثاني / يناير 2013 يؤكد عودة هذه اللغة أخيراً إلى الحياة: "بعد أن حُكِمَ عليها بالموت، ها هي مانكس - اللغة الأم لجزيرة مان - تشهد نهضة غير عادية. وتتجلّى مظاهر هذه النهضة في إشارات المرور، والبرامج الإذاعية، وتطبيقات الهاتف المحمول، والأعمال الأدبية... قم بجولة بالسيارة في أنحاء جزيرة مان اليوم وستدرك أنّ اللغة المحلية حاضرة في كل مكان"
ويضيف التقرير: "رجل من سكان الجزيرة يدعى (براين ستوال) ويبلغ من العمر 76 سنة، ألَّفَ روايةً باللغة المانكسية بعنوان (جرائم قتل مصاصي الدماء)، ويقوم بتقديم برنامج إذاعي على أمواج راديو مانكس  كل يوم أحد لترقية هذه اللغة. يقول (براين ستوال): "إذا تحدثتم اللغة المانكسية في حانة في هذه الجزيرة في الستينات، اُعتبِرَ ذلك عملاً استفزازياً ومن المحتمل أن تقعوا في مشاجرة!"
وفي 2 نيسان / أبريل 2015  نشرت صحيفة "الجارديان" البريطانية مقالا بعنوان "كيف بعثت اللغة المانكسية الغيلية بعد الموت". جاء فيه: "عدد متزايد من أولياء التلاميذ يتعلمون اللغة المانكسية لأنّ أطفالهم يتكلمون هذه اللغة لمعرفة ما يتحدثون عنه." ويذكر تقرير "الجارديان" الدور الذي لعبته التكنولوجيا في إحياء هذه اللغة، فالدعم التكنولوجي كان حجرَ الأساس لبعث اللغة المانكسية، ومن جملة ذلك تويتر وأفلام فيديو اليوتيوب والتسجيلات الصوتية إضافة إلى تصميم تطبيق اللغة المانكسية للهواتف الذكية، قام بتحميله آلاف المستخدمين.
ومما قام به سكان الجزيرة لإحياء لغتهم إدراجها في المناهج التعليمية وفتح مواقع تسعى لنشر اللغة مثل الموقع المتخصص في تعلم اللغة المانكسية ويدعى "لورن مانكس.كوم" والذي يعتمد على مصادر مختلفة في التعليم مثل تطبيقات الهاتف الجوال. وآخر مبادرة لتعليم اللغة المانكسية للكبار، حسب الموسوعة الحرة، تمثلت في إنشاء موقع "قل شيئا باللغة المانكسية". كما تمَّ إصدار معجم جديد في هذه اللغة سنة 2016.
وهكذا استطاع سكان جزيرة مان وعددهم لا يتجاوز 89 ألف نسمة من بعث لغتهم المانكسية المنقرضة، بفضل إرادتهم وتعلّقهم الشديد بلغة أجدادهم ورفضهم التخلي عنها.
فالتّجربة المانكسية بلا ريب رسالة لكل الشعوب بأنّ اللغة لا تموت إلا بموت إرادة هذه الشعوب. وإن ماتت نتيجة تخلّي الشعوب عنها فإنّها قابلة لأن تعود إلى الوجود في أي وقت إن استفاقت ضمائرها. ولا شكّ أنّنا نستخلص من هذه التّجربة الرائدة أنّ لوسائل التعليم والتكنولوجيا دور عظيم، ليس في حفظ اللغة ووقايتها من الانقراض فحسب وإنما أيضاً في بعث اللغات المنقرضة وترقيتها ونشرها.
وندرك من خلال هذا النموذج الناجح أنّ موت اللغة ليس أبدياً. فاللغة الميتة تستطيع أن تعود إلى الحياة بعد سنوات وحتى بعد قرون اعتمادا على ما تتركه من رموز وقواعد وأصوات وغير ذلك إن حظيت باهتمام الشعوب والأجيال القادمة.
ونستخلص من هذه التّجربة أيضاً أنّ مصير اللغة يخضع إلى حد بعيد لإرادة البشر. تموت إن تخَلُّوا عنها كما فعل سكان جزيرة مان في وقت من الأوقات حينما انصرفوا عنها إلى لغة أرقى منها، لغة الوطن الأم الإنجليزية. وتُبعث من جديد وتعود المياه إلى مجاريها كأنّ شيئاً لم يكن إن عادوا إليها والتفوا حولها ورغبوا في إحيائها وتشبثوا بها حتى وإن كانوا لا يتحدثون بها مثلما فعل سكان جزيرة مان لاحق حينما أدركوا أنهم لا يستطيعون التخلي عن لغة أجدادهم مع أنّهم لم يكونوا يتحدثون بها ومع أنّهم كانوا يتقنون أعظم لغة في الدنيا، اللغة الإنجليزية!

مولود بن زادي روائي ولغوي جزائري مقيم في بريطانيا

 

Blogger:
http://mouloudbenzadi-novel1.blogspot.co.uk/2017/03/blog-post_6.html?m=1

Tags:
#mouloudbenzadi
#mouloud_benzadi
#le_roman_algerien
#la_littérature_algérienne
#مولود_بنزادي
#أدب_المهجر
#الأدب_الجزائري
#الأدب_العربي
#بعث_اللغات
#انقراض_اللغات
#القدس_العربي
#الأدب
#النقد

No comments:

Post a Comment