Friday 27 October 2017

الباحث اللغوي مولود بن زادي يرد على كمال داود بعد تهجمه على اللُّغة العربية من فرنسا صحيفة الناقد العراقي


الباحث اللغوي مولود بن زادي يرد على كمال داود بعد تهجمه على اللغة العربية من فرنسا

(المقال)

رابط الصفحة:
http://www.alnaked-aliraqi.net/article/47209.php

المقالة:

الباحث اللغوي مولود بن زادي يرد على كمال داود بعد تهجمه على اللغة العربية من فرنسا

ما زال صراعُ اللُّغةِ متَّقداً في الجزائر بين أغلبيةٍ مساندة للغة العربية وأقليةٍ مناصرة للفرانكفونية التي ورثتها البلاد عن العهد الاستعماري الطويل، والتي انحسر وجودها اليوم، حيث بات يقتصر على بعض المدن الكبرى ومنطقة القبائل.
من هؤلاء برز مؤخرا الكاتب الصحفي والروائي كمال داود الذي استطاع خلال فترة وجيزة أن يثير اهتمام الجماهير العربية والعالمية بتصريحاته المعادية للغة العربية والدين والهوية أكثر من الإبداع الأدبي أو الفكري أو البعد الإنساني أو أي اعتبار آخر. وسرعان ما حقّق هذا الرجل الطموح ما فشل فيه غيره وهو الفوز بجائزة غونكور 2015، متفوِّقاً فيها على أفضل أدباء فرنسا والبلدان الفرانكفونية. وإذا به اليوم من الشخصيات التي تتسابق على دعوتها القنوات التلفزيونية الفرنسية، يقصف من منصاتها اللغةَ والهويّة وحتى ثورة التحرير المجيدة والوطن. كانت آخر هذه المنصّات قناة "فرانس 5" في برنامج "المكتبة الكبيرة" حين قال: "العربية ليست لغتنا في المغرب الكبير وإنما هي لغة السلطة ورجال الدين في هذه المنطقة من العالم."

أوّل ما يلفت انتباهنا ونحن نسعى لتبيّن موقف داود من اللغة العربية هو هذا التناقض على منوال لكل مقام مقال. فما يقوله عن العربية في كتاباته باللغة الفرنسية وأمام الإعلام الفرنسي يبدو مختلفاً عمّا يقوله للإعلام العربي والمواطن العربي. فموقفه المعارض للّغة العربية جليٌّ في مؤلفاته الروائية، يلخّصه لنا الطيب آيت حمودة في مقالته في صحيفة عرب تايمز: "استوقفتني بعض الآراء الصادمة التي ذُكرت في رواية كمال داود منها على سبيل المثال قوله: إنّ اللغة العربية مفخخة بالمقدس، وإننا نحن الجزائريين لسنا عربا، وإن اللغة العربية المقدسة جدا لغة ميتة جدا، وإن الاستعمار الأفقي العربي خلق منا مُستعمَرين. إنني جزائري ولغتي هي الجزائرية وليست العربية." وسرعان ما تتحوَّل هذه الألوان القاتمة التي يرسم بها داود اللغة العربية أمام الإعلام الغربي إلى ألوان زاهية في حواراته الموجَّهة إلى الجماهير العربية، حيث يقول: "العربية الفصحى هي لغة تراث عالمي، هي لغة ثقافة وتساؤلات حول العالم. هي لغة طرب وخطابة. على غرار لغات أخرى، هي جزء من أدوات الفرد لفهم العالم ولسرد الوقائع." (القدس العربي: 16 أيلول/سبتمبر 2017)

التناقض لا يتوقّف عند هذا الحد، وإنما يتّخذ صورا وأشكالا متعددة لا تخفى على مَن يدقّق النظر في أقواله وكتاباته. يتجلّى ذلك في حديثه عن "الاستعمار الأفقي العربي" وهو فتح عربي يعود تاريخه إلى أزمنة غابرة (القرن 7 للميلاد) لا يمكن محوه، أقدم من الاستيطان الأوربي في أمريكا الذي صنع أعظم قوة في العالم، الولايات المتحدة، موحّداً شعوبها وقبائلها المختلفة، جامعاً شملها رغم اختلاف أصولها وألسنتها، بلغةٍ واحدة هي لغة الأغلبية المستوطنة الإنكليزية.
وإن كان كمال داود ينتقد ما يسميه "الاستعمار العربي" الذي كسبت منه الجزائر لغةً في منزلة العربية بكلِّ ما تحمله في صدفاتها من كنوز المفردات والمترادفات والاشتقاق والبلاغة، وهي اليوم اللغة الرابعة عالمياً ولسان ما يقارب نصف مليار نسمة، فإنّه يتجاهل الاستعمار الفرنسي القادم من الضفة المقابلة للبحر المتوسط والذي حاربه أجداده، ومن مخلفاته لغته الفرنسية التي ترفض الرحيل عن هذا البلد بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال رغم قلة شعبيتها. وهي اليوم تُؤخّر قدوم اللغة الإنكليزية الأكثر انتشارا عالمياً، التي تبقى تحلّق في سماء الجزائر منتظرة إشارة الهبوط التي سيعطيها إياها جيل من الأجيال القادمة. وستنزل في هذه الأرض يوماً لا محالة.

التناقض يبدو أيضاً في قوله "لغتي هي الجزائرية". فإن كانت كذلك، فلمَ لا يستخدمها في كتابة رواياته؟ ألم يكتب الأديب الهندي الفائز بجائزة نوبل للآداب سنة 1913 روبندرونات طاغور بلغته البنغالية والإنكليزية معاً بدلاً من الإنكليزية وحدها رغم عظمة هذه اللغة العالمية وعميق تأثيرها في العالم الهندي الذي خضع للتاج البريطاني طويلاً؟
يبدو أيضا أنّ كمال داود يسيء فهم كلمة لغة عندما يقول "لغتي هي الجزائرية". فما يتحدّث به الجزائريون ليس لغة وإنما لهجات تختلف من منطقة إلى أخرى وتطغى على بعضها ألفاظ فرنسية، ولا تخضع لقواعد، ولا تصلح للخطابات السياسية، ولا للشعائر الدينية، ولا حتى للكتابات الأدبية. فعن أي لهجة جزائرية يتحدث؟ وما هي خصائصها؟ وبأي أحرف يكتبها؟
ويعتقد كمال داود أن العربية لغة السلطة، مع أنّه لا أحد في المجتمع يشكّ في نزعة السلطة والإدارة إلى استخدام الفرنسية أكثر من العربية وهو شاهد على ذلك.
ويخال العربية لغةَ رجال الدين. واللغة العربية في واقع الأمر لا تقتصر على الإسلام، إذ تشترك فيها عدّة أديان. فأقدم الكتابات العربية وُجِدَ على جدران الكنائس في حلب وحران في سوريا. وقد ساهم المترجمون المسيحيون في نقل الآداب اليونانية إلى العربية. وكتب بالعربية أدباءُ المهجر في القارتين الأمريكيتين أواخر القرن 19 ومطلع القرن 20 وكانوا مسيحيين. دون أن ننسى شخصيات مسيحية مؤثرة في اللغة العربية مثل بطرس البستاني أحد رواد النهضة العربية ومؤلِّف أول موسوعة عربية. كما استخدم اليهود العربية في الحديث والكتابة ومن هؤلاء يهود الأندلس.
ويعتقد كمال داود أن اللغة المقدسة لغة ميتة. والتاريخ يفنّد ذلك. فعلى سبيل المثال، ارتباط العبرية بالكتاب المقدس هو الذي حفظها لقرون طويلة بعد تشتت أهلها وتوقفهم عن التحدث بها، وساهم لاحقاً في بعثها من بعد موتها.
وخلاصة القول إن أفكار كمال داود في موضوع اللغة العربية تبدو في مجملها بسيطة، واهنة، يكتنفها الغموض، كقوله للإعلام الفرنسي: "أنا جزائري ولست عربيا، أنا لا أنتمي إلى العرب، أنا أتكلم الجزائرية وأحوز على جوار سفر جزائري". فكأنَّه لا يفرِّق بين اللغة والانتماء العرقي أو الوطني. وإلا فما علاقة جواز السفر الجزائري باللغة التي يتحدثها ؟ فمواطن الولايات المتحدة يحمل جواز سفر أمريكياً ولغته الإنكليزية. والمواطن الكندي يملك جوازاً كندياً ولغته الفرنسية أو الإنكليزية. ولا يخبرنا داود عن أي "لغة جزائرية" يتحدَّث - وما أكثر اللهجات الجزائرية، وما أوسع أوجه الاختلاف بينها. ولا يفسّر لنا ما يقصده ب"اللغة الجزائرية"، ولا طبيعة هذه اللغة وخصائصها، ونوع الحروف التي ُتكتَب بها، والقواعد التي تضبطها، والأعمال الأدبية التي ألفت بها. ولا يوضِّح لنا لماذا أثِرَ الكتابةَ بالفرنسية بدلاً منها، إن كانت ترقى إلى مقام اللغة وكان فخوراً بها.
إنّ ما يفسّر هذه النظرة السطحية البسيطة هو بلا شك عدم تخصّص داود في اللغة – هذا الحقل الواسع والمعقّد والملغّم والذي يتطلّب الدراسة والبحث والتحليل، والاجتهاد والصبر الطويل.
إنَّ هذه الحملة التي يشنُّها اليوم كمال داود على العربية تحت أنظار العالم العربي المتحسّر والحائر، وتصفيقات الإعلام الفرنسي المرحِّب والمناصر، ما هي إلا شيء من صراع الهوية واللغة في هذا البلد. ولم يضف داود شيئاً يُذكَر. فما يردده منذ سنوات قليلة يتردَّد منذ عشرات السنين على ألسنة فئة قليلة من أفراد المجتمع موالية لفرانكفونية أثبت تعثّرها في الجزائر. إذ رغم حقبة الاستعمار الفرنسي الطويلة، لم تستطع أن تحقق فيها ما حققته في دول أفريقية أخرى مثل مالي والكونغو والسنغال حيث تفوَّقت الفرنسية على اللغات المحلية وصارت لغتها الرسمية. وما فتئت العربية لغةَ الجزائر الرسمية من غير منازع بحكم انتمائها الجغرافي والتاريخي والاجتماعي إلى الوطن العربي إضافة إلى إرادة أبناء هذا الوطن وتشبثهم بلغتهم ورفضهم استبدالها بالفرنسية أو اللهجات العامية.
وإن كانت هذه الكتابات والتصريحات المعادية للغة العربية - التي يلهب نيرانها الإعلام لا سيما الفرنسي - ستثير ضجة وجدلاً لا محالة، فإنّ ذلك لن يؤثّر في اللغة العربية في غياب أفكار عميقة، وأدلة دامغة، وشواهد بينة، وتقارير مقنعة، ولغة أرقام ومنطق لا تقبل الجدل. وحتى وإن توالى عليها القصف، فإنه لن يهز صخرة من صخور قلعتها المحصَّنة، الصامدة منذ قرون في وجه القوات الغازية. وما زالت متينة، شامخة، ترفرف في سمائها رايةُ السيادة، وتسبح في أجوائها روح الأبدية.

مولود بن زادي  كاتب جزائري - بريطانيا

#مولود_بنزادي
#أدب_المهجر
#الأدب_الجزائري
#الأدب_العربي
#القدس_العربي
#العربية

No comments:

Post a Comment